top of page

قبو تحت الأكباش 

 

بقلم : أحمد الغانم

 

تحتضن المدينة التاريخية العريقة كراكوفKrakow البولندية مهرجان الجاز الصيفي  Piwnica Pod Baranami) ، خلال شهر يوليو من كل عام ، بحضور لافت لأشهر فناني و فرق الجاز من كافة أنحاء العالم و ذلك مع إطلاق المبادرة الجديدة للمهرجان تحت مسمى ( فانين مقيمين)، حيث يقول الفنان فيتولد نوك مؤسس و مدير المهرجان في هذا الشأن :" إنها لمسة فنية جديدة نصبغ بها عالم المهرجان".

و لا أجد بصراحة أن وصف فيتولد للمهرجان بكلمة" عالم" فيها أي أدنى من المبالغة، في الدورة الرابعة عشر لهذا المهرجان و الذي أقيم ي الفترة من 5 إلى 31 يوليو 2009 ، كان  محطة لأحد أهم  و أشهر الفرق الأوركسترالية و هي (NDR ) أوركسترا إذاعة المانيا العامة بهامبورج لتصاحب مغنيين كبار أمثال ماريا سشينديار و جوي لافينو و جو بوسكو و تاليس لاغرن ، أما الحدث الأكثر أهمية للجمهور الكراكوفي فهو عودة الفنان عازف البيانو و المؤلف فلاديسلوف سنديسكي ، بعد انقطاع عن هذه المدينة قارب الثلاثين عاماً  و فعاليات أخرى كثيرة،فناهيك عن أن بعض المواقع تستضيف حفلين موسيقيين متتابعين لهذا المهرجان في نفس الليلة  و قد يكون هنالك أكثر من موقع في نفس الليلة .

 

          تقام فعاليات المهرجان على عدد من المسارح الكبيرة و دور الأوبرا (يوجد بهذه المدينة 15 مسرح كبير أو ما يسمى بدار أوبرا)  و الأندية العريقة في هذه المدينة المفعمة بعبق التاريخ  التي تبهرك منذ الوهلة الأولى بمجرد أن تطأ قدمك إحدى المداخل لساحة ( رينيك ) ، قد يخيل إليك بأنك في حلم أو في فيلم سينمائي تدور أحداثه في القرن الخامس عشر، حيث المباني و الكنائس و القصور تحاط بهذه الساحة فيما يتمدد سوق ( سوكيينيتسا) أو ما يعرف برواق الأثواب  في إحدى الجهات ، فيما تقف الكنيسة الكاثوليكية( بازاليكا مارياسكا)

St. Mary's Basilica شامخة في أحدى الزوايا بصومعتيها المتباينتين طولاً بشكلٍ  لافت و نادر،خاصة عندما تتساءل عن السبب لتجد أن الإجابة بها من الظرف الشيء الكثير، فيقال أن من أشرف على بنائها أخويين من المهندسين، فعندما أنجز أحدهما إحدى الصومعتين، قرر الأخ الثاني و بدافع من الإعجاب المصبوغ بالتحدى والغيرة بناء الصومعة الأخرى للتأتي أطول ...!،وأن صادف وجودك لحظة دقات ساعة هذه الكاتدرائية التاريخية، فسيلفت انتباهك عازف الترمبيت الذي يطل من إحدى الصومعتين ليطلق النفير، و حتى هذا اللحظة يبقى الأمر مألوفاً و لكن و أنت تتابع أداءه تجده أنه ينهي عزفه بشكل مفاجئ و غريب و كأنه فقد نَفَسَهُ فجأة ثم يلوح بيديه للعالم السفلي فيما هم يصفقون له و يحيونه ، و هو أمر آخر يثير فيك الحيرة و التساؤل مرة أخرى:لم عساه يفعل ذلك ؟ تأتيك قصة أخرى أكثر طرافة فيقال  أنه و من هذا المكان كان من المعتاد أن يقف حارس للمدينة ليطلق النفير حين قدوم أعداء لمهاجمة المدينة، و ذات يوم  باغت أعداء المدينة فما كان من الحارس إلا المبادرة بإطلاق النفير ،و من سوء حظ ذلك الحارس بينما كان  يطلق ذلك  النفير  فإذا بأحد القناصة  يرديه  بسهم في مقتل و هو يؤدي نفيره، فأنقطع النفير فجأةً ، من هنا استمدت هذه العادة والتي كانت مؤثرة  لدرجة أنها استخدمت  في السلام الوطني لبولندا ..!

          هذا الروح المتسمة بالطرافة تجدها تطال كل شيء في هذا المكان، و أنت تمضي في حلمك ، عفوا ....طريقك على الأحجار المرصوصة ، تأخذك إيقاعات  حوافر الجياد الضخمة  و هي تجر العربات التاريخية الفاخرة  بشموخ ، فيما يفترش الفنانون من ممثلين و موسيقيين و تشكيليين بقاع هذه الساحة ليشعلوا حياة نابضة في هذا المدينة منذ الصباح حتى أفول الشمس التي هي الأخرى تجدها تنسحب بحسرة و بطئ شديدين و كأنها لا تود أن تفارق هذا المكان،  فهناك تبدأ أولى خيوط الظلام مع الثامنة مساءً ألا أنه لا يخيم  حتى الساعة العاشرة مساءً، إن القيمة التاريخية المهمة لهذا المدينة  جعلت اليونسكو تضع جلها تحت قائمة التراث الإنساني الثقافي العالمي .

 

          في هذا الموقع  و بنظرة ثاقبة من السيد فيتولد نوك ابن هذه المدينة أختار انطلاقة هذا المهرجان في أول يوم أحد من شهر يوليو من كل عام ، ليأتي يوم الخامس من يوليو لهذا العام 2008 انطلاقته بكرنفال مهيب شارك فيه الفنانون بالعزف فيما يستقل بعضهم سيارات قديمة تحمل أعلام بلدانهم أو عربات خيول فيما الآلاف من الجماهير ينتظرون هذا الحدث المهم فمن لم يسعفه الحظ في العثور على كرسي في أحدى المقاهي المحيطة- و هم الغالبية العظمى- فلا بديل له سوى الوقوف .

 

          و كان هذا مبرراً كافيا لمنظمي المهرجان لاختيار الموقع الأساسي لهذا الحدث و الذي نجده في عنوان المهرجان (SUMMER JAZZ FESTIVAL AT PIWNICA POD BARANAMI) ، و الذي يعني ( قبو تحت الأكباش ) ، هذا القبو القابع أسفل أحد القصور التاريخية  حيث تجد ثلاثة رؤوس من الكباش تعتلي بوابته ، كان مهداً لانطلاقة موسيقى الجاز في بولندا منذ العام 1956 ، في وقت كان هذا النوع من الموسيقى يعتبر من المحظورات و التي قد يعاقب عليها من يمارسها ، من هنا تم اختيار تصميم( أيقونة) أو تعويذة المهرجان و التي هي عبارة عن كبش يعزف على الكلارينيت، فيما تأتي جائزة المهرجان تحت اسم ( كبش الجاز ) .

          هذا القبو يستضيف في كل ليلة حفلين موسيقيين، يضيق بالجمهور و لكنهم يأبوا أن يغادروا المكان ، كان لي الشرف كعازف فلوت عربي،  كضيف شرف للمهرجان  بدعوة من مدير المهرجان في إحدى فعاليات المهرجان تحت اسم ( ليلة بحرينية ) ، شاركني هذا  في الحفل الفنانة البلولندية القادمة من أعالي الجبال ( هانيا شونيك ) بالغناء ،و الفرقة  المصاحبة  مكونة من عازف كي بورد( سابستيان)  و غيتار بيس و درامز ، تم تقديم فيها موسيقى أغاني عربية و بحرينية و أخرى من تأليفي ، كما هو الحال موسيقى بولندية جبلية ، بإعداد خاص تم من خلال ورشة عمل استمرت ستة أيام في ( قبو تحت الأكباش) ، فيما تم تقديم الحفل بنادي كرودارينا في 12 يوليو 2009 .

 

          يبقى أن نعرف أن كراكوف هي المدينة الوحيدة التي نجت من بطش هتلر ، فيما قام بتسوية  كل ما هو بارز على الأرض في عموم الأرض البولندية .

bottom of page