top of page

مجيد كنزٌ من الموسيقى

بقلم : أحمد الغانم

 

 

 

       

 

 

 

 

 

 

مجيد مرهون الذي هو من مواليد 1945 لم يكن لقائي به إلا في عام 1990، لقد سمعت عنه قبلاً و قرأت الكثير و عرفت عنه قبل سنين من هذا التاريخ ،ولا أتصور أنه كان يعلم بوجودي حينها، حيث ولدت في عام 1970 .

 

        أما لقائي الحقيقي به فهو عندما أهداني إحدى مقطوعاته الموسيقية،وقمت بدوري بأدائها في أول أمسية موسيقية أقمتها و قدمتها في البحرين،كان ذلك بنادي باربار الثقافي و الرياضي في 15أكتوبر1990، حينها لم أزل طالباً في السنة الأولى للمرحلة العالية بمعهد الكونسيرفاتوار( القاهرة)،و بعد انتهائي من تقديم الأمسية جاءني مجيد ليحيني و يبلغني باني أجدت تفسير و أداء موسيقاه، كانت لتلك الكلمات- و التي أحسبني قد لا استحقها و لكنه قصد  من ورائها أن يشجعني و أن يدفعني للأمام كما يفعل مع الآخرين -  أعود لأقول كانت لتلك الكلمات الأثر الكبير في تعميق و توثيق العلاقة بيني و بينه و أشعرتني بأن هذا الإنسان العظيم،الذي طالما حلمت بلقائه تجمعني الآن به علاقة تبدو و كأنها قديمة و وطيدة .  

 

        اكتشفت فيما بعد بأن مجيد مرهون بحر من المعلومات الموسيقية،لا أظن أنه يخيب ظنك في الرد في حال في سؤاله عن أي أمر في عالم الموسيقى، فلديه دائماً الإجابة الشافية، لقد عاصرت مجيد خلال الأيام التي قضيناها في التدريبات لمهرجانات فرقة أجراس، و كان كثيراً ما يثير استغرابي و يبعث في نفسي الخجل لتواضع معلوماتي بالنسبة له،حيث كنت أسأل نفسي كيف لهذا الإنسان أن يملك كل هذه الذخيرة من الثقافة و المهارات وهو من أمضى أجمل سنين عمره بعيداً و منعزلاً عن العالم، بينما نحن  الذين في هذه الظروف المنفتحة على العالم، لا نحظى إلا بالشيء اليسير مما يملكه من معلومات غزيرة ؟

 

                الغريب في الأمر أنه على الرغم من كل هذا لم يكن يشعر محاوره بجهله أو بتواضع معلوماته، لقد كان يحاور و يناقش كما لو كان محاوره يملك ما يملكه هو ..! ،كما لاحظت أيضاً أن هذا الأسلوب يتبعه في طريقة تدرسيه مع تلامذته في المكتبة الموسيقية التابعة للمكتبة العامة بالمنامة، حيثُ ذهبتُ  ذاتَ مرةٍ إلى هناك فوجدته مع عددٍ منهم في جو مفعم بالصداقة و المرح، لم  يشعرني الوضع بجو الدرس التقليدي بين الأستاذ و التلميذ، و لا يخفى على أحد كيف  جاءت نتاجاته  الإيجابية بعد ذلك مع تلامذته ..

 

        موسيقى مجيد على درجة من الوضوح بالنسبة للكثيرين يرجع ذلك لأسلوبه الكلاسيكي من ناحية و لوضوح الأفكار اللحنية و بروزها من ناحية أخرى .قمت بعزف غالبية أعماله الموسيقية التي كتبها لآلة الفلوت المنفرد،و أنه لم بواعث فخري و اعتزازي أن أربع منها مقدمة كإهداء لي في عنوان العمل المخطوط  أو خاتمته  وهذه اللفتة منه  لا تقدر بثمن بالنسبة لي، فما هو معروف في عالم الموسيقى أن العازفين يتفاخرون بين أندادهم إن هم حظوا بإهداء عمل موسيقي من أحد المؤلفين، ما بالك ,انا أحظى بهذا الإهداءات الثمينة من الفنان مجيد ذات نفسه .

        من خلال عزفي لأعمال مجيد اكتشفت كما أسلفت بأن أسلوبها كلاسيكي الطابع تحمل بين ثناياها روح مجيد العربية المتمثلة في لمس بعض المقامات العربية،إلا أن السمة الغالبة في تلك الأعمال هو ما تحويه من حزن و ألم دفين، يجرك نحو(جمرة)مدفونة بين النغمات، و لكي تشعر بالارتياح و فهم المقطوعة عليك بنفث الرماد من على تلك الجمرة، و قد يتطلب ذلك منك الجهد و الوقت سواءً في البحث أو النفخ لإيقاد تلك الجمرة، فإن وجدتها فلسوف تلسع قلبك و يقشعر بدنك ،وقد يتبعا ذلك دمعة تترقرق في مقلتيك، ولكن بالتأكيد سوف تشعر بعدها بارتياح كبير و غريب و جميل ...   

 

        كتابته لآلة الفلوت تدل على مقدرة فائقة في فهم إمكانيات الآلة، و في أساليب و طرق العزف عليها سواء تلك القديمة أو الحديثة ، و حتى بالنسبة للأعمال الموسيقية التي لم يكتبها أولاً للفلوت، مثل(إلى معشوقة الروح) و التي كتبها في الأصل للساكسفون و البيانو ، ولكن بعد أن سمعتها منه ذات مرةٍ طلبت منه أن يعيد صياغتها للفلوت و البيانو، فلم يتردد أبدا و فعلها لـتأتي ملائمة تماماً و كأنها كتبت بالأساس للفلوت و البيانو .

 

        بقي أن نعرف أن الأمر الذي أدهشني و يدهش الكثيرين من حولي هو سرعة إنتاجه الموسيقي و طريقته في الـتأليف،فيحدث كثيراً أن يقول لي في إحدى اللقاءات بأنه سوف يكتب عمل موسيقي  لي بعد يومين،و فعلاً يأتيني اتصاله بعد يومين ليخبرني بأن العمل جاهز ..! ، أما الأمر الأكثر إدهاشاً هو الطريقة التي يعتمدها في الـتأليف،فهو لا يستخدم آلة موسيقية في ابتكار الألحان، بل يعتمد على فمه و إذنه و خياله، لصياغة الألحان و بناء هارمونياتها..!؟ ، لقد فعلها من قبله بيتهوفن عندما كتب سيمفونيته التاسعة وهو في حالة صمم تام، و لكن مجيد يفعلها الآن و هو يسمع، فهل لنا أن نقدر هذا الإنسان العظيم بما يملك من مهارات ،تستعصي على الكثيرين القيام بها .

 

        ومن هذا المقام أقدم أعظم تحياتي لهذا الفنان العظيم .

 

 

سبتمبر1999- بمناسبة مهرجان البحرين الدولي للموسيقى الثامن .

مواضيع ذات صلة
bottom of page